فصل: فصــل التنازع في الحروف الموجودة في كلام الآدميين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 فصــل

فجاء قوم من متكلمي الصفاتية، الذين نصروا أن الله له علم وقدرة وبصر وحياة، بالمقاييس العقلية المطابقة للنصوص النبوية، وفرقوا بين الصفات القائمة بالجواهر فجعلوها أعراضًا، وبين الصفات القائمة بالرب فلم يسموها أعراضًا، لأن العَرَض ما لا يدوم ولا يبقى، أو ما يقوم بمتحيز أو / جسم، فصفات الرب لازمة دائمة ليست من جنس الأعراض القائمة بالأجسام‏.‏

وهؤلاء أهل الكلام القياسي من الصفاتية، فارقوا أولئك المبتدعة المعطلة الصابئة في كثير من أمورهم، وأثبتوا الصفات التي قد يستدل بالقياس العقلي عليها، كالصفات السبع، وهي‏:‏ الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام‏.‏ ولهم نزاع في السمع والبصر والكلام، هل هو من الصفات العقلية أو الصفات النبوية الخبرية السمعية‏؟‏ ولهم اختلاف في البقاء والقدم، وفي الإدراك الذي هو إدراك المشمومات والمذوقات والملموسات،ولهم ـ أيضًا ـ اختلاف في الصفات السمعية القرآنية الخبرية كالوجه واليد، فأكثر متقدميهم أو كلهم يثبتها، وكثير من متأخريهم لا يثبتها، وأما ما لا يرد إلا في الحديث فأكثرهم لا يثبتها، ثم منهم من يصرف النصوص عن دلالتها لأجل ما عرضها من القياس العقلي عنده، ومنهم من يفوض معناها‏.‏

وليس الغرض هنا تفصيل مقالات الناس فيما يتعلق بسائر الصفات، وإنما المقصود القول في ‏[‏رسالة الله، وكلامه‏]‏ الذي بلغته رسله، فكان هؤلاء بينهم وبين أهل الوراثة النبوية قدر مشترك بما سلكوه من الطرق الصابئة في أمر الخالق، وأسمائه وصفاته، فصار في مذهبهم في الرسالة تركيب من الوراثتين، لبسوا حق ورثة الأنبياء بباطل ورثة أتباع الصابئة، كما كان في مذهب أهل الكلام المحض المبتدع ـ كالمعتزلة ـ تركيب، وليس بين الأثارة ‏[‏الأثارة‏:‏ بقية الشيء، من علم أو خبر‏]‏‏.‏ النبوية وبين الأثارة الصابئة، / لكن أولئك أشد اتباعا للأثارة النبوية، وأقرب إلى مذهب أهل السنة من المعتزلة، ونحوهم من وجوه كثيرة‏.‏

ولهذا وافقهم في بعض ما ابتدعوه كثير من أهل الفقه، والحديث والتصوف؛ لوجوه‏:‏

أحدها‏:‏ كثرة الحق الذي يقولونه، وظهور الأثارة النبوية عندهم‏.‏

الثاني‏:‏ لبسهم ذلك بمقاييس عقلية بعضها موروث عن الصابئة، وبعضها مما ابتدع في الإسلام، واستيلاء ما في ذلك من الشبهات عليهم، وظنهم أنه لم يمكن التمسك بالأثارة النبوية من أهل العقل والعلم، إلا على هذا الوجه‏.‏

الثالث‏:‏ ضعف الأثارة النبوية الدافعة لهذه الشبهات، والموضحة لسبيل الهدى عندهم‏.‏

الرابع‏:‏ العجز والتفريط الواقع في المنتسبين إلى السنة والحديث؛ تارة يروون ما لا يعلمون صحته، وتارة يكونون كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، ويعرضون عن بيان دلالة الكتاب والسنة على حقائق الأمور‏.‏

/فلما كان هذا منهاجهم، وقالوا‏:‏ إن القرآن غير مخلوق لما دل على ذلك من النصوص وإجماع السلف، ولما رأوا أنه مستقيم على الأصل الذي قرروه في الصفات، ورأوا أن التوفيق بين النصوص النبوية السمعية، وبين القياس العقلي لا يستقيم إلا أن يجعلوا القرآن معنى قائمًا بنفس الله تعالى ــ كسائر الصفات، كما جعله الأولون من باب المصنوعات المخلوقات، لا قديمًا كسائر الصفات ــ ورأوا أنه ليس إلا مخلوق أو قديم، فإن إثبات قسم ثالث قائم بالله يقتضى حلول الحوادث بذاته، وهو دليل على حدوث الموصوف، ومبطل لدلالة حدوث العالم‏.‏

ثم رأوا أنه لا يجوز أن يكون معانى كثيرة، بل إما معنى واحد عند طائفة، أو معاني أربعة عند طائفة، والتزموا على هذا أن حقيقة الكلام هي المعنى القائم بالنفس، وأن الحروف والأصوات ليست من حقيقة الكلام، بل دالة عليه فتسمى باسمه؛ إما مجازا عند طائفة، أو حقيقة بطريق الاشتراك عند طائفة، وإما مجازا في كلام الله حقيقة في غيره عند طائفة‏.‏

وخالفهم الأولون وبعض من يتسنن أيضا، وقالوا‏:‏ لا حقيقة للكلام إلا الحروف والأصوات، وليس وراء ذلك معنى إلا العلم ونوعه، أو الإرادة ونوعها، فصار النزاع بين الطائفتين‏.‏

/وأورد على هؤلاء‏:‏ أن الأمر والنهي والخبر صفات للكلام إضافية ليست أنواعًا له وأقسامًا، وأن كلام الله معنى واحد؛ إن عبر عنه بالعربية فهو قرآن، وبالعبرية فهو توراة، وبالسريانية فهو إنجيل، وقال لهم أكثر الناس‏:‏ هذا معلوم الفساد بالضرورة، كما قال الأولون‏:‏ إنه خلق الكلام في الهواء فصار متكلمًا به، وإن المتكلم من أحدث الكلام ولو في ذات غير ذاته؛ وقال لهم أكثر الناس‏:‏ إن هذا معلوم الفساد بالضرورة‏.‏

وقال الجمهور من جميع الطوائف‏:‏ إن الكلام اسم للفظ والمعنى جميعًا، كما أن الإنسان المتكلم اسم للروح والجسم جميعًا، وأنه إذا أطلق على أحدهما فبقرينة، وأن معاني الكلام متنوعة ليست منحصرة في العلم والإرادة، كتنوع ألفاظه، وإن كانت المعاني أقرب إلى الاتحاد والاجتماع، والألفاظ أقرب إلى التعدد والتفرق‏.‏

والتزم هؤلاء أن حروف القرآن مخلوقة، وإن لم يكن عندهم الذي هو كلام الله مخلوقًا، وفرقوا بين كتاب الله وكلامه، فقالوا‏:‏ كتاب الله هو الحروف وهو مخلوق، وكلام الله هو معناها غير مخلوق‏.‏ وهؤلاء والأولون متفقون على خلق القرآن الذي قال الأولون‏:‏ إنه مخلوق، واختلف هؤلاء أين خلقت هذه الحروف‏؟‏ هل خلقت في الهواء‏؟‏ أو في نفس جبرائيل‏؟‏ أو أن جبرائيل هو الذي أحدثها أو محمد‏؟‏

/وأما جمهور الأمة وأهل الحديث والفقه والتصوف فعلى ما جاءت به الرسل، وما جاء عنهم من الكتب والأثارة من العلم، وهم المتبعون للرسالة اتباعًا محضًا، لم يشوبوه بما يخالفه من مقالة الصابئين، وهو أن القرآن كلام الله، لا يجعلون بعضه كلام الله وبعضه ليس كلام الله، والقرآن هو القرآن- الذي يعلم المسلمون أنه القرآن ـ حروفه ومعانيه، والأمر والنهى هو اللفظ والمعنى جميعًا‏.‏

ولهذا كان الفقهاء المصنفون في أصول الفقه من جميع الطوائف؛ الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية- إذا لم يخرجوا عن مذاهب الأئمة والفقهاء ـ إذا تكلموا في الأمر والنهي ذكروا ذلك، وخالفوا من قال‏:‏ إن الأمر هو المعنى المجرد، ويعلم أهل الأثارة النبوية ـ أهل السنة والحديث، عامة المسلمين الذين هم جماهير أهل القبلة ـ أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏1، 2‏]‏ ونحو ذلك هو كلام الله لا كلام غيره، وكلام الله هو ما تكلم به لا ما خلقه في غيره، ولم يتكلم به‏.‏

/ وسئل شيخ الإسلام ـ قدس الله روحه ـ عن رجلين تجادلا في ‏[‏الأحرف التي أنزلها الله على آدم‏]‏ فقال أحدهما‏:‏ إنها قديمة ليس لها مبتدأ، و شكلها ونقطها محدث‏.‏ فقال الآخر‏:‏ ليست بكلام الله وهي مخلوقة بشكلها ونقطها، والقديم هو الله، وكلامه منه بدأ وإليه يعود، منزل غير مخلوق، ولكنه كُتِبَ بها‏.‏ وسألا‏:‏ أيهما أصوب قولًا وأصح اعتقادًا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله رب العالمين، أصل هذه المسألة هو معرفة ‏[‏كلام الله تعالى‏]‏‏.‏ ومذهب سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وسائر أئمة المسلمين ـ كالأئمة الأربعة وغيرهم ـ ما دل عليه الكتاب و السنة، وهو الذي يوافق الأدلة العقلية الصريحة أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، فهو المتكلم بالقرآن والتوراة والإنجيل وغير ذلك من كلامه، ليس ذلك / مخلوقًا منفصلا عنه، وهو ـ سبحانه ـ يتكلم بمشيئته وقدرته، فكلامه قائم بذاته، ليس مخلوقًا بائنًا عنه، وهو يتكلم بمشيئته وقدرته، لم يقل أحد من سلف الأمة‏:‏ إن كلام الله مخلوق بائن عنه، ولا قال أحد منهم‏:‏ إن القرآن أو التوراة أو الإنجيل لازمة لذاته أزلا وأبدًا، وهو لا يقدر أن يتكلم بمشيئته وقدرته، ولا قالوا‏:‏ إن نفس ندائه لموسى أو نفس الكلمة المعينة قديمة أزلية، بل قالوا‏:‏ لم يزل الله متكلمًا إذا شاء، فكلامه قديم، بمعنى أنه لم يزل متكلمًا إذا شاء‏.‏

وكلمات الله لا نهاية لها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا‏}

‏[‏الكهف‏:‏109‏]‏، والله ـ سبحانه ـ تكلم بالقرآن العربي، وبالتوراة العبرية، فالقرآن العربي كلام الله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ‏}‏إلى قوله‏:‏ ‏{‏لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 98 ـ 103‏]‏ فقد بين ـ سبحانه ـ أن القرآن الذي يبدل منه آية مكان آية نزله روح القدس وهو جبريل ـ وهو الروح الأمين كما ذكر ذلك في موضع آخر ـ من الله بالحق، وبين بعد ذلك أن من الكفار من قال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ‏}‏ كما قال بعض المشركين‏:‏ يعلمه رجل بمكة أعجمي، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ‏}‏ أي الذي يضيفون إليه هذا التعليم أعجمي‏{‏وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏103‏]‏‏.‏

/ففي هذا ما يدل على أن الآيات التي هي لسان عربي مبين، نزلها روح القدس من الله بالحق، كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏114‏]‏، والكتاب الذي أنزل مفصلاً هو القرآن العربي باتفاق الناس، وقد أخبر أن الذين أتاهم الكتاب يعلمون أنه منزل من الله بالحق، والعلم لا يكون إلا حقًا فقال‏:‏ ‏{‏يّعًلّمٍونّ‏}‏ ولم يقل‏:‏ يقولون، فإن العلم لا يكون إلا حقا بخلاف القول، وذكر علمهم ذكر مستشهد به‏.‏

وقد فرق ـ سبحانه ـ بين إيحائه إلى غير موسى وبين تكليمه لموسى في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏136ـ 165‏]‏ فرق ـ سبحانه ـ بين تكليمه لموسى وبين إيحائه لغيره، ووكد تكليمه لموسى بالمصدر، وقال تعالى‏:‏‏{‏تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏بِرُوحِ الْقُدُسِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏253‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏15‏]‏ إلى آخر السورة‏.‏ فقد بين ـ سبحانه ـ أنه لم يكن لبشر أن يكلمه الله إلا على أحد الأوجه الثلاثة؛ إما وحيًا، وإما من وراء حجاب، وإما أن يرسل رسولا فيوحى بإذنه ما يشاء، فجعل الوحي غير التكليم، والتكليم من وراء حجاب كان لموسى‏.‏

/ وقد أخبر في غير موضع أنه ناداه كما قال‏:‏ ‏{‏وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ‏}‏ الآية ‏[‏مريم‏:‏25‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ‏}‏ الآية ‏[‏القصص‏:‏30‏]‏‏.‏ و‏[‏النداء‏]‏ باتفاق أهل اللغة لا يكون إلا صوتًا مسموعًا، فهذا مما اتفق عليه سلف المسلمين وجمهورهم‏.‏ وأهل الكتاب يقولون‏:‏ إن موسى ناداه ربه نداء سمعه بأذنه، وناداه بصوت سمعه موسى، والصوت لا يكون إلا كلامًا، والكلام لا يكون إلا حروفًا منظومة، وقد قال تعالى‏:‏‏{‏تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏2‏]‏، وقال‏:‏‏{‏حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏1، 2‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏}‏‏[‏الجاثية‏:‏1، 2‏]‏

فقد بين في غير موضع أن الكتاب والقرآن العربي منزل من الله‏.‏

وهذا معنى قول السلف‏:‏ منه بدأ، قال أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ ‏:‏ منه بدأ‏:‏ أي هو المتكلم به؛ فإن الذين قالوا‏:‏ إنه مخلوق، قالوا‏:‏ خلقه في غيره، فبدا من ذلك المخلوق، فقال السلف‏:‏ منه بدا، أي هو المتكلم به لم يخلقه في غيره فيكون كلامًا لذلك المحل الذي خلقه فيه؛ فإن الله ـ تعالى ـ إذا خلق صفة من الصفات في محل كانت الصفة صفة لذلك المحل ولم تكن صفة لرب العالمين؛ فإذا خلق طعما أو لونًا في محل كان ذلك المحل هو المتحرك المتلون به، وكذلك إذا خلق حياة أو إرادة أو قدرة أو علمًا أو كلامًا في محل كان ذلك المحل هو المريد، / القادر، العالم، المتكلم بذلك الكلام، ولم يكن ذلك المعنى المخلوق في ذلك المحل صفة لرب العالمين، وإنما يتصف الرب ـ تعالى ـ بما يقوم به من الصفات، لا بما يخلقه في غيره من المخلوقات، فهو الحي، العليم، القدير، السميع، البصير، الرحيم، المتكلم بالقرآن وغيره من الكلام، بحياته وعلمه وقدرته وكلامه القائم به، لا بما يخلقه في غيره من هذه المعاني‏.‏

ومن جعل كلامه مخلوقًا لزمه أن يقول المخلوق هو القائل لموسى‏:‏ ‏{‏إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏14‏]‏، وهذا ممتنع، لا يجوز أن يكون هذا كلامًا إلا لرب العالمين، وإذا كان الله قد تكلم بالقرآن والتوراة وغير ذلك من الكتب بمعانيها وألفاظها المنتظمة من حروفها لم يكن شيء من ذلك مخلوقًا، بل كان ذلك كلامًا لرب العالمين‏.‏

وقد قيل للإمام أحمد بن حنبل‏:‏ إن فلانًا يقول‏:‏ ‏[‏لما خلق الله الأحرف سجدت له إلا الألف، فقالت‏:‏ لا أسجد حتى أومر‏]‏، فقال‏:‏ هذا كفر‏.‏ فأنكر على من قال‏:‏ إن الحروف مخلوقة؛ لأنه إذا كان جنس الحروف مخلوقًا لزم أن يكون القرآن العربي والتوراة العبرية وغير ذلك مخلوقًا، وهذا باطل مخالف لقول السلف والأئمة، مخالف للأدلة العقلية والسمعية، كما قد بسط في غير هذا الموضع‏.‏

/والناس قد تنازعوا في كلام الله نزاعًا كثيرًا، والطوائف الكبار نحو ست فرق، فأبعدها عن الإسلام قول من يقول من المتفلسفة والصابئة‏:‏ إن كلام الله إنما هو ما يفيض على النفوس؛ إما من العقل الفعال، وإما من غيره، وهؤلاء يقولون‏:‏ إنما كلم الله موسى من سماء عقله، أي بكلام حدث في نفسه لم يسمعه من خارج‏.‏

وأصل قول هؤلاء‏:‏ إن الأفلاك قديمة أزلية، وأن الله لم يخلقها بمشيئته وقدرته في ستة أيام كما أخبرت به الأنبياء، بل يقولون‏:‏ أن الله لا يعلم الجزئيات، فلما جاءت الأنبياء بما جاؤوا به من الأمور الباهرة جعلوا يتأولون ذلك تأويلات يحرفون فيها الكلم عن مواضعه، ويريدون أن يجمعوا بينها وبين أقوال سلفهم الملاحدة، فقالوا مثل ذلك‏.‏ وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى، وهم كثيروا التناقض، كقولهم‏:‏ إن الصفة هي الموصوف، وهذه الصفة هي الأخرى، فيقولون‏:‏ هو عقل وعاقل ومعقول، ولذيذ‏.‏ وملتذ ولذة، وعاشق ومعشوق وعشق‏.‏‏.‏ وقد يعبرون عن ذلك بأنه حي عالم معلوم، محب محبوب‏.‏ ويقولون‏:‏ نفس العلم هو نفس المحبة، وهو نفس القدرة، ونفس العلم هو نفس العالم، ونفس المحبة هي نفس المحبوب‏.‏

ويقولون‏:‏ إنه علة تامة في الأزل؛ فيجب أن يقارنها معلولها في / الأزل في الزمن، وإن كان متقدمًا عليها بالعلة لا بالزمان‏.‏ ويقولون‏:‏ إن العلة التامة ومعلولها يقترنان في الزمان ويتلازمان، فلا يوجد معلول إلا بعلة تامة، ولا تكون علة تامة إلا مع معلولها في الزمان‏.‏ ثم يعترفون بأن حوادث العالم حدثت شيئًا بعد شيء من غير أن يتجدد من المبدع الأول ما يوجب أن يصير علة للحوادث المتعاقبة، بل حقيقة قولهم أن الحوادث حدثت بلا مُحْدِث، وكذلك عدمت بعد حدوثها من غير سبب يوجب عدمها على أصلهم‏.‏

وهؤلاء قابلهم طوائف من أهل الكلام، ظنوا أن المؤثر التام يتراخى عنه أثره، وأن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح، والحوادث لها ابتداء، وقد حدثت بعد أن لم تكن بدون سبب حادث‏.‏ ولم يهتد الفريقان للقول الوسط، وهو أن المؤثر التام مستلزم أن يكون أثره عقـب تأثيره التـام لا مـع التأثيـر ولا مـتراخيًا عنه، كما قال تعـالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏82‏]‏ فهو ـ سبحانه ـ يكون كل شيء فيكون عقب تكوينه لا مع تكوينه في الزمان، ولا متراخيًا عن تكوينه، كما يكون الانكسار عقب الكسر والانقطاع عقب القطع، ووقوع الطلاق عقب التطليق لا متراخيًا عنه، ولا مقارنًا له في الزمان‏.‏

والقائلون بالتراخي ظنوا امتناع حوادث لا تتناهى، فلزمهم أن / الرب لا يمكنه فعل ذلك، فالتزموا أن الرب يمتنع أن يكون لم يزل متكلمًا بمشيئته، ويمتنع أن يكون لم يزل قادرًا على الفعل والكلام بمشيئته، فافترقوا بعد ذلك، منهم من قال‏:‏ كلامه لا يكون إلا حادثًا؛ لأن الكلام لا يكون إلا مقدورًا مرادًا‏.‏ وما كان كذلك لا يكون إلا حادثًا، وما كان حادثًا كان مخلوقًا منفصلاَ عنه؛ لامتناع قيام الحوادث به، وتسلسلها في ظنهم‏.‏

ومنهم من قال‏:‏ بل كلامه لا يكون إلا قائمًا به، وما كان قائمًا به لم يكن متعلقًا بمشيئته وإرادته، بل لا يكون إلا قديم العين؛ لأنه لو كان مقدورًا مرادًا لكان حادثًا، فكانت الحوادث تقوم به، ولو قامت به لم يسبقها ولم يخل منها، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث؛ لامتناع حوادث لا أول لها‏.‏

ومنهم من قال‏:‏ بل هو متكلم بمشيئته وقدرته، لكنه يمتنع أن يكون متكلمًا في الأزل، أو أنه لم يزل متكلمًا بمشيئته وقدرته؛ لأن ذلك يستلزم وجود حوادث لا أول لها، وذلك ممتنع‏.‏

قالت هذه الطوائف‏:‏ ونحن بهذا الطريق علمنا حدوث العالم، فاستدللنا على حدوث الأجسام بأنها لا تخلو من الحوادث ولا تسبقها،وما لم يسبق الحوادث فهو حادث‏.‏ثم من هؤلاء من ظن أن هذه / قضية ضرورية ولم يتفطن لإجمالها‏.‏ ومنهم من تفطن للفرق بين مالم يسبق الحوادث المحصورة المحدودة وما يسبق جنس الحوادث المتعاقبة شيئًا بعد شيء‏.‏ أما الأول فهو حادث بالضرورة؛ لأن تلك الحوادث لها مبدأ معين، فما لم يسبقها يكون معها أو بعدها وكلاهما حادث‏.‏

وأما جنس الحوادث شيئًا بعد شيء فهذا شيء تنازع فيه الناس، فقيل‏:‏ إن ذلك ممتنع في الماضي والمستقبل، كقول الجهم وأبي الهذيل‏.‏ فقال الجهم بفناء الجنة والنار‏.‏ وقال أبوالهذيل بفناء حركات أهلهما‏.‏ وقيل‏:‏ بل هو جائز في المستقبل دون الماضي؛ لأن الماضي دخل في الوجود دون المستقبل‏.‏ وهو قول كثير من طوائف النظَّار‏.‏ وقيل‏:‏ بل هو جائز في الماضي والمستقبل، وهذا قول أئمة أهل الملل وأئمة السنة ـ كعبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل، وغيرهما ـ ممن يقول بأن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء، وأن كلمات الله لا نهاية لها، وهي قائمة بذاته، وهو متكلم بمشيئته وقدرته‏.‏ وهو ـ أيضًا ـ قول أئمة الفلاسفة‏.‏

لكن أرسطو وأتباعه مدعون ذلك في حركات الفلك، ويقولون‏:‏ إنه قديم أزلي، وخالفوا في ذلك جمهور الفلاسفة، مع مخالفة الأنبياء والمرسلين وجماهير العقلاء‏.‏ فإنهم متفقون على أن الله خلق السموات والأرض، بل هو خالق كل شيء، وكل ما سوى الله مخلوق حادث، كائن بعد أن لم يكن‏.‏ وإن القديم الأزلي‏.‏ هو الله ـ تعالى ـ بما هو متصف به من صفات / الكمال وليست صفاته خارجة عن مسمى اسمه، بل من قال‏:‏ عبدت الله ودعوت الله، فإنما عبد ذاته المتصفة بصفات الكمال التي تستحقها، ويمتنع وجود ذاته بدون صفاتها اللازمة لها‏.‏

ثم لما تكلم في ‏[‏النبوات‏]‏ من اتبع أرسطو ـ كابن سينا وأمثاله ـ ورأوا ما جاءت به الأنبياء من إخبارهم بأن الله يتكلم، وأنه كلم موسى تكليمًا‏.‏ وأنه خالق كل شيء، أخذوا يحرفون كلام الأنبياء عن مواضعه، فيقولون‏:‏ الحدوث نوعان، ذاتي وزماني، ونحن نقول‏:‏ إن الفلك محدث الحدوث الزماني؛ بمعنى أنه معلول وإن كان أزليًا لم يزل مع الله، وقالوا‏:‏ إنه مخلوق بهذا الاعتبار، والكتب الإلهية أخبرت بأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، والقديم الأزلي لا يكون في أيام‏.‏

وقد علم بالاضطرار أن ما أخبرت به الرسل ـ من أن الله خلق كل شيء، وأنه خلق كذا ـ إنما أرادوا بذلك أنه خلق المخلوق، وأحدثه بعد أن لم يكن، كما قال‏:‏ ‏{‏وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏9‏]‏، والعقول الصريحة توافق ذلك، وتعلم أن المفعول المخلوق المصنوع لا يكون مقارنًا للفاعل في الزمان ولا يكون إلا بعده، وأن الفعل لا يكون إلا بإحداث المفعول‏.‏

/وقالوا لهؤلاء قولكم‏:‏ ‏[‏إنه مؤثر تام في الأزل‏]‏ لفظ مجمل يراد به التأثير العام في كل شيء، ويراد به التأثير المطلق في شيء بعد شيء، ويراد به التأثير في شيء معين دون غيره؛ فإن أردتم الأول لزم ألا يحدث في العالم حادث، وهذا خلاف المشاهدة‏.‏ وإن أردتم الثاني لزم أن يكون كل ما سوى الله مخلوقًا حادثًا كائنًا بعد أن لم يكن، وكان الرب لم يزل متكلمًا بمشيئته فعالا لما يشاء، وهذا يناقض قولكم، ويستلزم أن كل ما سواه مخلوق، ويوافق ما أخبرت به الرسل، وعلى هذا يدل العقل الصريح، فتبين أن العقل الصريح يوافق ما أخبرت به الأنبياء‏.‏ وإن أردتم الثالث فسد قولكم؛ لأنه يستلزم أنه يشاء حدوثها بعد أن لم يكن فاعلا لها من غير تجدد سبب يوجب الإحداث، وهذا يناقض قولكم؛ فإن صح هذا جاز أن يحدث كل شيء بعد أن لم يكن محدثًا لشيء، وإن لم يصح هذا بطل، فقولكم باطل على التقديرين‏.‏

وحقيقة قولكم‏:‏ إن المؤثر التام لا يكون إلا مع أثره، ولا يكون الأثر إلا مع المؤثر التام في الزمن، وحينئذ فيلزمكم ألا يحدث شيء، ويلزمكم أن كل ما حدث حدث بدون مؤثر، ويلزمكم بطلان الفرق بين أثر وأثر، وليس لكم أن تقولوا‏:‏ بعض الآثار يقارن المؤثر التام، وبعضها يتراخى عنه‏.‏

/وأيضًا، فكونه فاعلا لمفعول معين مقارن له أزلا وأبدًا، باطل في صريح العقل‏.‏ وأيضًا، فأنتم وسائر العقلاء موافقون على أن الممكن الذي لا يكون إلا ممكنًا يقبل الوجود والعدم، وهو الذي جعلتموه الممكن الخاص الذي قسيمه الضروري الواجب، والضروري الممتنع لا يكون إلا موجودًا تارة ومعدومًا أخرى، وأن القديم الأزلي لا يكون إلا ضروريًا واجبًا يمتنع عدمه، وهذا مما اتفق عليه أرسطو وأتباعه حتى ابن سينا، وذكره في كتبه المشهورة كـ‏[‏الشفا‏]‏ وغيره‏.‏ ثم تناقض فزعم أن الفلك ممكن مع كونه قديمًا أزليًا لم يزل ولا يزال، وزعم أن الواجب بغيره، القديم الأزلي الذي يمتنع عدمه يكون ممكنًا يقبل الوجود والعدم‏.‏ وزعم أن له ماهية غير وجوده‏.‏ وقد بسط الكلام على فساد قول هؤلاء وتناقضه في غير هذا الموضع‏.‏

والقول الثاني للناس ـ في كلام الله تعالى ـ قول من يقول‏:‏ إن الله لم يقم به صفة من الصفات، لا حياة ولا علم، ولا قدرة ولا كلام، ولا إرادة ولا رحمة، ولا غضب ولا غير ذلك، بل خلق كلامًا في غيره فذلك المخلوق هو كلامه، وهذا قول الجهمية والمعتزلة‏.‏ وهذا القول ـ أيضًا ـ مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف، وهو مناقض لأقوال الأنبياء ونصوصهم، وليس مع هؤلاء عن الأنبياء قول يوافق قولهم، بل لهم شبه عقلية فاسدة، قد بينا فسادها في غير هذا / الموضع، وهؤلاء زعموا أنهم يقيمون الدليل على حدوث العالم بتلك الحجج، وهم لا للإسلام نصروا، ولا لأعدائه كسروا‏.‏

والقول الثالث‏:‏ قول من يقول‏:‏ إنه يتكلم بغير مشيئته وقدرته بكلام قائم بذاته أزلا وأبدًا، وهؤلاء موافقون لمن قبلهم في أصل قولهم، لكن قالوا‏:‏ الرب تقوم به الصفات، ولا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الصفات الاختيارية‏.‏

وأول من اشتهر عنه أنه قال هذا القول في الإسلام عبد الله بن سعيد بن كُلاّب، ثم افترق موافقوه، فمنهم من قال‏:‏ ذلك الكلام معنى واحد هو الأمر بكل مأمور، والنهي عن كل محظور، والخبر عن كل مخبر عنه، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة‏.‏ وقالوا‏:‏ معنى القرآن والتوراة والإنجيل واحد، ومعنى آية الكرسي هو معنى آية الدَّيْن‏.‏ وقالوا‏:‏ الأمر والنهي والخبر صفات للكلام لا أنواع له، ومن محققيهم من جعل المعنى يعود إلى الخبر، والخبر يعود إلى العلم‏.‏

وجمهور العقلاء يقولون‏:‏ قول هؤلاء معلوم الفساد بالضرورة، وهؤلاء يقولون‏:‏ تكليمه لموسى ليس إلا خلق إدراك يفهم به موسى ذلك المعنى‏.‏ فقيل لهم‏:‏ أفهم كل الكلام أم بعضه‏؟‏ إن كان فهمه كله / فقد عَلِمَ عِلْم الله، وإن كان فهم بعضه فقد تبعض، وعندهم كلام الله لا يتبعض ولا يتعدد‏.‏

وقيل لهم‏:‏ قد فرق الله بين تكليمه لموسى وإيحائه لغيره، وعلى أصلكم‏:‏ لا فرق‏.‏

وقيل لهم‏:‏ قد كَفَّر اللَّهُ من جعل القرآن العربي قول البشر، وقد جعله تارة قول رسول من البشر، وتارة قول رسول من الملائكة، فقال في موضع‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏40-42‏]‏ ، فهذا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وقال في الآية الأخرى‏:‏‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏19-21‏]‏، فهذا جبريل، فأضافه تارة إلى الرسول الملكي، وتارة إلى الرسول البشري، والله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس‏.‏

وكان بعض هؤلاء ادعى أن القرآن العربي أحدثه جبريل أو محمد، فقيل لهم‏:‏ لو أحدثه أحدهما لم يجز إضافته إلى الآخر‏.‏ وهو ـ سبحانه ـ أضافه إلى كل منهما باسم الرسول الدال على مرسله لا باسم الملك والنبي، فدل ذلك على أنه قول رسول بلغه عن مرسله، لا قول ملك أو نبي أحدثه من تلقاء نفسه، بل قد كفر من قال‏:‏ إنه قول البشر‏.‏

/والطائفة الأخرى ـ التي وافقت ابن كلاب على أن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته ـ قالت‏:‏ بل الكلام القديم هو حروف، أو حروف وأصوات لازمة لذات الرب أزلا وأبدًا لايتكلم بها بمشيئته وقدرته، ولا يتكلم بها شيئًا بعد شيء‏.‏ ولم يفرق هؤلاء بين جنس الحروف وجنس الكلام، وبين عين حروف قديمة أزلية، وهذا ــ أيضًا- مما يقول جمهور العقلاء أنه معلوم الفساد بالضرورة؛ فإن الحروف المتعاقبة شيئًا بعد شيء يمتنع أن يكون كل منها قديمًا أزليا، وإن كان جنسها قديمًا؛ لإمكان وجود كلمات لا نهاية لها، وحروف متعاقبة لا نهاية لها، وامتناع كون كل منها قديمًا أزليًا؛ فإن المسبوق بغيره لا يكون أزليًا‏.‏

وقد فرق بعضهم بين وجودها وماهيتها، فقال‏:‏ الترتيب في ماهيتها لا في وجودها، وبطلان هذا القول معلوم بالاضطرار لمن تدبره، فإن ماهية الكلام الذي هو حروف لا يكون شيئًا بعد شيء، والصوت لا يكون إلا شيئًا بعد شيء، فامتنع أن يكون وجود الماهية المعينة أزليًا متقدمًا عليها به، مع أن الفرق بينهما بين لو قدر الفرق بينهما، ويلزم من هذين الوجهين أن يكون وجودها ـ أيضًا ـ مترتبًا ترتيبًا متعاقبًا‏.‏

ثم من هؤلاء من يزعم أن ذلك القديم هو ما يسمع من العباد من الأصوات بالقرآن والتوراة والإنجيل أو بعض ذلك،وكان أظهر / فسادا مما قبله، فإنه يعلم بالضرورة حدوث أصوات العباد‏.‏

وطائفة خامسة قالت‏:‏ بل الله يتكلم بمشيئته وقدرته بالقرآن العربي وغيره، لكن لم يكن يمكنه أن يتكلم بمشيئته في الأزل؛ لامتناع حوادث لا أول لها، وهؤلاء جعلوا الرب في الأزل غير قادر على الكلام بمشيئته، ولا على الفعل كما فعله أولئك، ثم جعلوا الفعل والكلام ممكنا مقدورًا من غير تجدد شيء أوجب القدرة والإمكان، كما قال أولئك في المفعولات المنفصلة‏.‏

وأما السلف فقالوا‏:‏ لم يزل الله متكلما إذا شاء، وأن الكلام صفة كمال، ومن يتكلم أكمل ممن لا يتكلم، كما أن من يعلم ويقدر أكمل ممن لا يعلم ولا يقدر، ومن يتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن يكون الكلام لازمًا لذاته، ليس له عليه قدرة ولا له فيه مشيئة، والكمال إنما يكون بالصفات القائمة بالموصوف لا بالأمور المباينة له، ولا يكون الموصوف متكلما عالمًا قادرًا إلا بما يقوم به من الكلام والعلم والقدرة‏.‏

وإذا كان كذلك فمن لم يزل موصوفًا بصفات الكمال أكمل ممن حدثت له بعد أن لم يكن متصفًا بها لو كان حدوثها ممكنًا، فكيف إذا كان ممتنعًا‏؟‏ فتبين أن الرب لم يزل ولا يزال موصوفًا بصفات الكمال، منعوتًا بنعوت الجلال؛ ومن أجلِّها الكلام‏.‏ فلم يزل متكلما إذا شاء ولا يزال كذلك، وهو يتكلم إذا شاء بالعربية كما تكلم بالقرآن /العربي، وما تكلم الله به فهو قائم به ليس مخلوقًا منفصلا عنه، فلا تكون الحروف التي هي مباني أسماء الله الحسنى وكتبه المنزلة مخلوقة؛ لأن الله تكلم بها‏.‏

 فصــل

ثم تنازع بعض المتأخرين في الحروف الموجودة في كلام الآدميين‏.‏ وسبب نزاعهم أمران‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم لم يفرقوا بين الكلام الذي يتكلم الله به فيسمع منه، و بين ما إذا بلغه عنه مبلغ فسمع من ذلك المبلغ؛ فإن القرآن كلام الله، تكلم به بلفظه ومعناه بصوت نفسه، فإذا قرأه القراء قرؤوه بأصوات أنفسهم، فإذا قال القارئ‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ‏}

‏[‏الفاتحة 2، 3‏]‏ كان هذا الكلام المسموع منه كلام الله لا كلام نفسه، وكان هو قرأه بصوت نفسه لا بصوت الله، فالكلام كلام الباري، والصوت صوت القارئ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏زينوا القرآن بأصواتكم‏)‏، وكان يقول‏:‏ ‏(‏ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي‏؟‏ فإن قريشًا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي‏)‏، وكلا الحديثين ثابت، فبين أن الكلام الذي يبلغه كلام ربه، وبين أن القارئ / يقرؤه بصوت نفسه، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليس منا من لم يَتَغَنَّ بالقرآن‏)‏‏.‏ قال أحمد والشافعي وغيرهما‏:‏ هو تحسينه بالصوت‏.‏ قال أحمد بن حنبل‏:‏ يحسنه بصوته، فبين أحمد أن القارئ يحسن القرآن بصوت نفسه‏.‏

والسبب الثاني‏:‏ أن السلف قالوا‏:‏ القرآن كلام الله منزل غير مخلوق‏.‏ وقالوا‏:‏ لم يزل متكلما إذا شاء‏.‏ فبينوا أن كلام الله قديم، أي جنسه قديم لم يزل‏.‏ ولم يقل أحد منهم‏:‏ إن نفس الكلام المعين قديم، ولا قال أحد منهم‏:‏ القرآن قديم، بل قالوا‏:‏ إنه كلام الله منزل غير مخلوق، وإذا كان الله قد تكلم بالقرآن بمشيئته كان القرآن كلامه، وكان منزلا منه غير مخلوق، ولم يكن مع ذلك أزليًا قديمًا بقدم الله، وإن كان الله لم يزل متكلمًا إذا شاء، فجنس كلامه قديم‏.‏ فمن فهم قول السلف وفرق بين هذه الأقوال زالت عنه الشبهات في هذه المسائل المعضلة التي اضطرب فيها أهل الأرض‏.‏

فمن قال‏:‏ إن حروف المعجم كلها مخلوقة، وأن كلام الله تعالى مخلوق، فقد قال قولا مخالفًا للمعقول الصريح، والمنقول الصحيح‏.‏ ومن قال‏:‏ نفس أصوات العباد أو مدادهم أو شيئًا من ذلك قديم،فقد خالف ـ أيضًا ـ أقوال السلف،وكان فساد قوله ظاهرًا لكل أحد، وكان مبتدعًا قولا لم يقله أحد من أئمة المسلمين، ولا قالته طائفة كبيرة من /طوائف المسلمين، بل الأئمة الأربعة وجمهور أصحابهم بريئون من ذلك‏.‏ ومن قال‏:‏ إن الحرف المعين أو الكلمة المعينة قديمة العين، فقد ابتدع قولا باطلا في الشرع والعقل‏.‏

ومن قال‏:‏ إن جنس الحروف التي تكلم الله بها بالقرآن وغيره ليست مخلوقة، وأن الكلام العربي الذي تكلم به ليس مخلوقًا، والحروف المنتظمة منه جزء منه ولازمة له، وقد تكلم الله بها فلا تكون مخلوقة ـ فقد أصاب‏.‏

وإذا قال‏:‏ إن الله هَدَى عباده وعلَّمهم البيان، فأنطقهم بها باللغات المختلفة، وأنعم عليهم بأن جعلهم ينطقون بالحروف التي هي مباني كتبه وكلامه وأسمائه ـ فهذا قد أصاب، فالإنسان ـ وجميع ما يقوم به من الأصوات والحركات وغيرها ـ مخلوق كائن بعد أن لم يكن، والرب ـ تعالى ـ بما يقوم به من صفاته وكلماته وأفعاله غير مخلوق، والعباد إذا قرؤوا كلامه فإن كلامه الذي يقرءونه هو كلامه لا كلام غيره، وكلامه الذي تكلم به لا يكون مخلوقًا، وكان ما يقرءون به كلامه من حركاتهم وأصواتهم مخلوقًا، وكذلك ما يكتب في المصاحف من كلامه فهو كلامه مكتوبًا في المصاحف وكلامه غير مخلوق، والمداد الذي يكتب به كلامه وغير كلامه مخلوق‏.‏

/وقد فرق ـ سبحانه وتعالى ـ بين كلامه وبين مداد كلماته بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏109‏]‏ وكلمات الله غير مخلوقة، والمداد الذي يكتب به كلمات الله مخلوق، والقرآن المكتوب في المصاحف غير مخلوق، وكذلك المكتوب في اللوح المحفوظ وغيره، قال تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ‏}‏‏[‏البروج‏:‏21، 22‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏11-14‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏2، 3‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لَّا يَمَسُّهُ ِلَّاالْمُطَهَّرُونَ‏}‏‏[‏الواقعة‏:‏77-79]‏‏.‏